نُشِر هذا المقال لأول مرة بمجلة الهلال المصرية في أغسطس 1978م/ شعبان 1398هـ ضمن عدد تاريخي جاء تحت عنوان «محمد رؤية جديدة»، أصدره الدكتور حسين مؤنس، رئيس تحرير المجلة، وشارك فيه أكثر من 40 كاتبًا وأديبًا وعالمًا من ألمع كتاب مصر. (يتوفر نسخة صوتية من المقال في نهايته)
قالت خديجة لنسائها في صوتٍ مروَّعة مأخوذة: «أقبلن فانظرن! فإني أرى شيئًا ما رأى الناس مثله قط». وأقبل نساؤها، فلما نظرن أكبرن، ثم ارتعن فتراجعن، ثم عدن فجددن النظر، وقد ذهبت بهن الحيرة كل مذهب! فقلن لخديجة مبهورات مسحورات: «ما ينبغي أن يكون هذا رجلًا من الناس».
قالت خديجة وقد امتلأ صوتها حنانًا وحبًّا، وإعجابًا وإكبارًا:
إنه والله لرجل من الناس قد عرفت أمه وأباه، وشهدت مولده، وسمعت أحاديث الناس عنه وآراءهم فيه، وقد طالما رغَّبتُنَّني عنه وحوَّلتُنَّني عمَّا كنت أريد منه. فأما الآن فلن تبلغن ممَّا حاولتنَّ شيئًا.
وما كادت تتم حديثها حتى كان محمد بن عبد الله قد دخل عليها فأنبأها في لفظٍ عذب سريع بما كان من رحلته إلى الشام، وبما عاد به إليها من ربحٍ مضاعف لم تكن ترجوه، ولم تعد بمثله إليها العير منذ تعودت أن ترسل تجارتها إلى الشام مع العير.
وقد أتم محمد حديثه دون أن تعرف خديجة كيف ترد عليه هذا الحديث، أو تشكر له هذا الصنيع، أو تكافئه على ما ساق الله إليها على يديه من خير.
ولكن محمدًا لم يمهلها، وإنما قال لها ما قال وانصرف عنها مسرعًا، فعادت النساء إلى خديجة يقلن: «ما ينبغي أن يكون هذا رجلًا من الناس!»
قالت: «ويحكن! لقد رأيتنَّه وسمعتنَه، وعلمتن أنه محمد بن عبد الله، ذلك الذي كان يرعى لقومه الغنم بالقراريط في أجياد». قلن: «لقد رأينا محمدًا غير مرة وهو يدفع الغنم أمامه عائدًا بها إلى حظائرها، فما رأيناه قط على مثل هذه الحال. لقد كان منظره يعجب، ولقد كانت أحاديث قومه عنه وآراء قومه فيه تُصبي إليه النفوس، وتعطف عليه القلوب. ولكنه كان – على كل حال – فتى فقيرًا معدمًا يرعى الغنم لقومه بأجياد. وكنا نرى أن ليس من النصح لك، ولا من الإخلاص في مودتك، والوفاء بما لك علينا من حق، أن نعينك على ما كنت تجدين من حب له، وميلٍ إليه، ورغبةٍ في أن تتخذيه لك زوجًا، وأنت – كما تعلمين – ذات مكانة في قومك، وارتفاعٍ في نسبك، وضخامةٍ في المال، وسعةٍ في الثروة، وسلطانٍ على نفوس الكهول والشباب من سادة قريش وأشراف مضر.
كلهم سعى إليك، وكلهم رغب فيك، وكلهم خطبك وتمنى أن تكوني له زوجًا، فما صبوتِ إلى واحدٍ منهم، وما حفلتِ بما أضمر لك من حب، وما أظهر لك من ود، وما قدَّم إليك من مال…»
قالت خديجة: «لئن كنت رفيعة المكانة في قومي فما مكانة محمد من قريش دون مكانتي، وإنا لننتهي جميعًا إلى قصيّ. ولئن كنت كثيرة المال ضخمة الثروة، فما عرفت قط أن المال يزن إلى جانب الحب شيئًا. ولقد رددتُ من خطبني من أشراف قومي وسادتهم؛ لأني لم أشعر قط بالميل إلى أحدٍ منهم، ولم أفكر في أن أمري يصلح للزواج أو يستقيم عليه، ولم أرَ قط أن بين هؤلاء السادة والأشراف من شباب قريش وكهولها من يستطيع أن يستعلي بعقله ورأيه على عقلي ورأيي. ولكن ما رأيت محمدًا قط إلا صبَتْ إليه نفسي، ومال إليه قلبي، وأذعنت لسلطانه العظيم عليَّ كل الإذعان».
قلن: «كان ذلك قبل أن تري ما رأيتِ الآن. فأما بعد هذا المنظر العجيب الذي لم يرَ الناس مثله قط فما ندري ما أنتِ فاعلة!»، قالت: «سترين ما أنا فاعلة، ولكُنَّ أن تعرفن أو تنكرن، وأن ترضين أو تغضبن». قلن: «ما ينبغي لنا أن ننكر أو نغضب وقد رأينا ما رأينا. وإنك لأسعد امرأة من قريش إن ظفرت بأن يكون محمد لك زوجًا».
هنالك أحسَّت خديجة في قلبها حبًّا لهذا الفتى لم تعرف كيف تصفه ولا كيف تسميه، ولكنها كانت تجد من نفسها الطاهرة نزاعًا شديدًا إلى أن تراه وتسمع منه وتتحدث إليه، ولم يكن ذلك يتاح لها ولا يهون عليها. فأين هي مع ثروتها الضخمة، ومالها الكثير، ومكانتها الممتازة، من هذا الفتى اليتيم الذي ينفق أكثر أيامه خارج مكة يرعى الغنم؟ فإذا عاد إلى مكة اعتزل الناس، أو كان كالمعتزل لهم، فلم يعرض لخديجة، ولم تستطع خديجة أن تعرض له.
ولكنها كانت – كلما رأى نساؤها منها ذلك – أنكرنه عليها أشد الإنكار، ورددنها عنه أشد الرد، وصوَّرن لها فقر الفتى وبؤسه، وما هي فيه من ثروة ونعيم، وذكرن لها تنافس الأشراف والسادة فيها، وحرصهم جميعًا على أن يبلغوا منها هذه المنزلة التي تؤثر بها هذا الفتى اليتيم.
فأحسَّت خديجة أن نساءها لم يفهمن عنها شيئًا، وأنهن لن يفهمن عنها شيئًا، وردت سرها العزيز إلى مكانه الأمين من نفسها الطاهرة وقلبها الكريم، وانتظرت حتى تهيأت العير في عامٍ من الأعوام للرحلة في التجارة إلى بلاد الروم، وجعلت خديجة تهيئ تجارتها، وجعل الناس من فقراء قريش يعرضون أنفسهم عليها ليرحلوا في تجارتها إلى الشام كما تعودوا أن يفعلوا من قبل.
ولكن خديجة لم تسمح لأحدٍ منهم، ولم تقف عند أحدٍ منهم، وإنما أُلقي في نفسها – دون أن تعرف كيف أُلقي في نفسها – أن محمدًا سيكون هذه المرة صاحب تجارتها إلى الشام. فلا تسأل نساءها عن شيء، ولا تحدِّث نساءها في شيء، وإنما ترسل إلى الشيخ دسيسًا يعرض عليه الأمر، ويهون عليه ما كان يستصعب منه، ويصوِّر أن الفتى قد أصبح رجلًا لا بأس عليه من مشقة السفر، ولا خوف عليه من مكر النصارى. وهو بعدُ سيكون في طائفةٍ من قومه يحمون العير بالعدد والعدة. ويزيِّن له أن خديجة قد تعودت أن تُؤجر المسافرين في تجارتها بَكْرَين، وأنها لا ترضى بهذا الأجر لابن عمها الأمين، فهي تؤجره أربعة أبكر.
وما كان أبو طالب ليرضى هذا العرض أو يقبله لولا أن قد كان لله في ذلك حكمة، ولولا أن الله قد ألقى في قلبه الرضا بهذا العرض لأمرٍ يُراد.
فقد كان أبو طالب شفيقًا على ابن أخيه، رفيقًا به، يكلؤه ويرعاه، ويحوطه ويحميه، يخشى عليه العوادي، ويضن به على المكروه، ولم ينس قط ما كان من تحذير «بحيرى» له، وإلحاحه عليه في أن يحوط ابن أخيه من مكر النصارى وكيد يهود.
ما أكثر ما فَصَلت العير عن مكة منذ عاد الشيخ بابن أخيه إليها، فلم يرسله أبو طالب مع العير، بل لم يُفصِل أبو طالب مع العير متجرًا، وإنما أبقى ابن أخيه في مكة، وأقام معه فيها حاميًا له، ذائدًا عنه.
فلما عرض عليه رسولُ خديجة ما عرض، همَّ أن يرفض، ولكن الله ألقى في نفسه القبول، فقال للرسول: «سأعرض هذا على ابن أخي». ثم لقي ابن أخيه فعرض عليه الأمر مرغبًا له، مشجعًا إياه.
وما كان الفتى في حاجةٍ إلى ترغيب أو تشجيع؛ فإن الذي قد ألقى في نفس خديجة اختياره لتجارتها هذا العام، وألقى في نفس أبي طالب قبول هذا الاختيار حين عرضه رسول خديجة عليه، قد ألقى في نفس الفتى قبول هذا الاختيار حين تحدث إليه عمه فيه.
وهذه العير تتهيأ للخروج من مكة، وهذا الفتى يتهيأ للخروج معها في قومه من قريش، وقد ألحقت به خديجة غلامها ميسرة، وهؤلاء عمومة الفتى يوصون به رفاقه من قريش، ويغلون في هذه التوصية، فلا يسمعون من أصحاب العير إلا هذا الرد الجميل يلقونه إليهم باسمين:
ما إيصاؤكم إلينا بالأمين؟ وما منا إلا من يبذل حياته فداءً للأمين!